الحدث وبناء الوعي
الشيخ يوسف بن محمد الغفيص
الحمد لله , والصلاة والسلام على رسول الله , وبعد :
حينما تكون أمام حدث ما... قد يبدو معقداً ؛ فليس بالضرورة أنك تواجه أزمة بنفس مقدار الحدث ، هذا الإدراك مؤهل من حيث المبدأ لتجاوز الحدث بأقل مقدار ممكن من الخسـارة ، ورفع مستوى الاستثمار والتصحيح ، والخروج بمصالح مناسبة .
قد تكون البدايات لحدث ما تصطدم بهذا المفهوم التأسيسي للتعامل ، فحينما تكون البداية أزمة لا تتجه في مسار الخير والفضيلة ؛ يتحول الحدث عند كثيرين إلى حركة من الشر والفساد ، ويعطي هذا المفهومُ الإذنَ لمحركات الفساد أن تمارس تطوير البداية وتوسيع دائرتها إلى فصول ومراحل الحدث .
هذه الرؤية التي يستعملها كثيرون تفتقد الإدراك لطبيعة السنن والحوادث الكونية التي تجري في هذا العالم بقدر الله ومشيئته ، وتفتقد الوعي بقانون الأشياء المركبة المعبِّر عن كون البداية لا تمثل إلا نفسها , وليست حاكماً على كل تسلسلات ونتائج الحدث .
لما رمى قوم من المنافقين عائشة زوج النبي صلى الله عليه وسلم بالإفك ؛ ظن قوم من المسلمين أن هذا شر محض في مبداه و منتهاه ؛ فجاء قوله تعالى : ( لا تحسبوه شراً لكم بل هو خير لكـم ) ولما هُزم المسلمون في أحد - وهذا شر من حيث هو -لم يمتد ليتحولَ إلى هزيمة في المبادئ والأخلاق ؛ بل تحصلّ بفضل الله خيرٌ كثير بعد ذلك , ومن أخص ذلك تثبيت المبادئ في نفوس أهل الإيمان ، وبناء الوعي الذاتي في التعامـل مع السنن الشرعية و الكونيـة ، ولما حاول بعض المشركين في آخر المعركة تطوير هزيمة المسلمين فصار أبو سفيان - وكان وقتها مشركاً زعيم قريش - يعلو صوته : ( لنا العُزّى ولا عُزّى لكم ) كان من جوابات المسلمين بأمر الرسول عليه الصلاة والسلام : ( الله مولانا ولا مولى لكم ) " أخرجه البخاري وغيره " . إن شكلاً واحداً من الهزيمة لا تعني شمولية الهزيمة ، وأهلُ الإسلام يُقدّر تجازهم لهزيمة الوعي ، فإن من أوثق الوعيِ الوعيُ بما هو من أصل العبودية ( الله مولانا ولا مولى لكم ) إن هذا الحرف النبوي بناء للنفوس المؤمنة ، وحديث عن انتصار المبادئ والأخلاق ، وقدسية الرسالة والعمل.
وهنا من المهم أن نفقه مفهوم النصر ، والعاقبة التي وُعدت به هذه الأمة فهي بإذن الله منصورة مرحومة ، والعاقبة لها في الدنيا والآخرة .
من هذا المفهوم في تصور الحدث – ولا سيما إذا كان شمولياً يقدم كحركة من الصراعات أو المطالبات و التحولات في مسارات مختلفة ، ويتجاوز دائرة المثال والخصوصية – يجب أن ندرك أن الأحداث تُعدّ مرحلة خصبة لبناء الوعي والتصحيح .
إن المصالح الخيرية التي تتكون من حدث ما ليس فاضل البداية ؛ بعضُها محضُ فضل إلهي يتجرد عن السببية الآدمية ؛ ولهذا جاء قوله : ( وما كان الله ليطلعكم على الغيب ) .
والبعض الآخر فضل من الله يجازي به العباد , أي : أنه مرتبط بالسببية والعمل الآدمي . ومن هنا يُقَدّر أن ندرك في التعامل مع الأحداث التي تعرض للأمة أياً كان مسارها أننا أمام تكليف شرعيٍّ بتطويق حركة الفساد والشر التي قد تتمثل واضحة في مرحلة ما من تسلسلات الحدث , وفي الغالب تكون في مرحلة البداية .
إن ثمّت مقاصد شرعية لا تتحقق في نفوس المؤمنين إلا في دائرة من الصراع ، وحركة من المتقابلات ؛ وهنا يتكون التوازن الذي هو مقصود الشريعة في ثبات المبادئ ، وصدق التعامل ، وترسيم العدل ، وتجاوز سلطة الذات ، وفرضيتها المثالية .
من هذا المعنى يُفْتَرض أن يكون لدينا سعة في التفكير والإدراك, وأن نتجاوز عقلية البُعد الواحد في التعامل مع الأحداث .
إن الأزمة تتطور يوم نفترض أن الأزمة ضرورةً تصنع أزمة في نفس المسار ، وهنا فإن توليد الأزمات في الأحداث الشمولية يقع كثيراً نتيجةً لهذا الافتراض والتسليم بهذا القانون.
إن هذا القانون ليس عادلاً , وهو تعبير عن هزيمة الوعي في الأزمات والأحداث ، ومن المهم أن ندرك أنه ليس يصنع شيئاً لصالحنا .
وهنا يُفترض أن ندرك ضرورة المحافظة على أمن الوعي والتفكير ، وألا نتحول إلى استجابة لحركة ارتباك ؛ يرسمها الطرف الآخر في الصراع وصناعة الحدث ؛ فحينما نفتقد التوازن , وربما يلحُّ البعض في رسم صورة النهاية , استقراءً ومراقبة من مقدمات تكوّن بداية الحدث ؛ فهنا ندرك أننا لم نحسن تقدير الأمور , وكأننا نستعجل رسم خيارات غيرنا في التعامل معنا .
إن المشكل الأكبر في الحدث يوم ينتج عنه هزيمة في الوعي . ربما يكون التعبير الأدقُّ هنا أن نقول : يوم نُنْتج من الحدث هزيمةَ الوعي ،إن أي حدث - أياً كانت بدايته - لا يمكن أن يؤهل لهذا الإنتاج ؛ بل طبيعة الأحداث أنها: تصنع الوعي والإدراك ؛ ولهذا ذكر الله قصص وأحداث الأمم في القرآن وقال : ( لقد كان في قصصهم عبرة لأولى الألباب ... ) .
أحياناً قد يكون هذا المُشكل يتولد من النظر إلى الحدث , فحينما يكون الحدث في دائرة الصراع أي : يتكون منه صراع : اقتصادي أو عسكري أو حضاري ، أو ثقافي أو نمط آخـر ؛ فهنا يتحصل لدي كثيرين سيطرة عقلية الصراع في سائر تسلسلات المرحلة . وربما تشكّل عن هذا مفهوم متواصل كنتيجة لهذه السيطرة . وهنا ندرك أن الخطأ لم يتكوّن من مجرد طبيعة الصراع , فهذا أمر تحتّمه طبيعة الحدث . والصراعُ ليس أزمة في سائر المواقع ؛ بل هو قانونُ فضيلةٍ يومَ يقع في المحل المناسب له ؛ لكنّ تكوّن الخطأ فرع عن سيطرة مفهوم واحد ، هو في هذه الفرضية ( الصراع ) . وهنا يمكن أن نقول : إن نفس المشكل والخطأ سيتكوّن بدرجة ما لو فرض سيطرة عقلية ( اللاصراع ) ، فليست الأزمة ضرورةً نتيجة قبول الصراع أو رفضه .
إن عقلية البعد الواحد في التعامل مع الحدث من أخص أزمات فقدان التـوازن والوعـي ؛ ولهذا قد يتولد من هذا المفهوم ظاهرة اليأس والإحباط , وربما فوضى التفكير والإنتاجِ ، أمام الأحداث الشمولية التي تحمل خسارة في بعض مراحلها , ومن المقدر أن عقلية البعد الواحد في التعامل مؤهلة لصناعة المواقف المتناقضة ، وحركة صراع المتقابلات داخل الأمة .
إن ثمت مجالات من العمل والتفكير تُعَد الأحداث الشمولية رائدة في بناء مفاهيمها الصحيحة , أي : أنها تساعد في تكوين الفكرة ، واختبارها ، وتأهيلها للعمل .
وحينما نلتفت إلى المفهوم الشمولي التعددي في التعامل مع الأحداث ؛ فمجرد تجاوزنا لعقلية البعد الواحد ؛ يعد قاعدة من الفضيلة التأسيسية لبناء الوعي . وهنا يُقّدر أن ندرك أن الأحداث الشمولية وإن كانت تفرض بطبيعتها ردود أفعال فمن المهم أن نتصور أن ردود الفعل تعتبر من حيث الأصل حالة طبيعية من الصعب معاندتها , وفرض تجاوز الحدث الشمولي دون مشاهدة هذه الحركة ؛ لكن مع هذا التقدير لواقعية ردود الأفعال باعتبارها قاعدة تقابلية قائمة في الأشياء ؛ يجب ألا نسمح لردود الفعل أن تتحول إلى مفهوم شمولي يحكم تعاملنا مع الحدث باستبداد وأُحادية .
ومن هنا يجب ألا تتحول ردود الفعل إلى تطوير للأزمة وتعقيد للمشكلة القائمة .
إن ردود الفعل طبيعة ذاتية في الإنسان ؛ وهنا من الصعب أن نفترض إلغاءها , فهنا لسنا نصنع شيئاً يُذكر ؛ بل هذه الطبيعة إذا وقعت في دائرة الاعتدال مؤهلة للمشاركة في بناء اعتدال النفس واستلابها غضبها الذي قد يعميها في مرحلة قادمة قد تكون أصعب بكثير من البداية ، من المهم أن تحتفظ النفس فيها باعتدالها ومصداقيتها .
لكن حين ندرك أن ردود الفعل في الأصل قاعدة في الطبيعة البشرية ؛ فمن الضروري الوعيُ بأن هذه الطبيعة ليست مؤهلة لتكون سلطة ، ولئن كانت قد تساهم في اعتدال النفس ؛ فقد تكون مسؤولة عن خلل في حركة النفس ونظام التفكير .
إن الاستسلام لهذه الطبيعة يعني كثيراً حاكمية الذّات ، وتجاوز قواعد العدل والإحسان وهذه حال لا تناسب أهل الإسلام فإنهم محكومون بقضاء الله ورسوله ( وما كان لمؤمن ولا مؤمنة إذا قضى الله ورسوله أمراً أن يكون لهم الخيرة من أمرهم ...) .
وحين ندرك هذا الرفض لهذا النوع من الحاكمية الذي ذكره الباري في التنزيل :
( أرأيت من اتخذ إلهه هواه أفأنت تكون عليه وكيلاً ) فضمن هذا تصور آخر , هو: أنه يتكون عن حاكمية الذات ؛ فقدان الوعي وصوابِ التفكير ؛ ولهذا جاء قوله بعد الآية الآنفة ( أم تحسب أن أكثرهم يسمعون أو يعقلون إن هم إلا كالأنعام بل هم أضل سبيلاً ) .
حين نتحدث عن تجاوز عقلية البعد الواحد ؛ فهنا نتطلع إلى تحويل مسار الحدث إلى الأفضل , وأن نصنع شيئاً لصالحنا ، وأن نتجاوز اليأس والقعود .
إن البلاء يؤهِّل للعاقبة , وفي قول هرقل في الحديث المخرج في الصحيحين : ( وكذلك الرسل تُبتلى ثم تكون لهم العاقبة ) .
إن من فضل الله على هذه الأمة : أن جعل لها مخرجا من كل عارض يعرض لها , سواء كان مبتداه منها أم من غيرها, وسواء كان مبتداه منها صوابا أم خطأً ؛ لكن هذا يستدعي لتحقيقه صدق الديانة , وفقه الشريعة والسنن .
إن الأحداث يجب أن تؤهِّل لتخليص الأمة من سذاجة الرأي , ومحدودية التفكير والجهل بالمبادىء والثوابت , وفساد الأخلاق والتربية .
وهنا يُقدّر أن تعمل سائرُ دوائر العمل في الأمة انطلاقا من التربية الذاتية الخاصة على الإيمان والصدق والفقه , وتواصلاً مع صناعة مشاريع خيرية تعالج الواقع الذي قد يكونُ الحدث ليس صانعا له ؛ لكنه كشف عن بعض مظاهره التي كانت في مرحلة ما في دائرة اللاوعي .
ومن عناية الشريعة بهذا المعنى: جاء تأكيد العمل في مرحلة الأزمات العامة ؛ ففي صحيح مسلم من حديث معقِل أن النبي صلى الله عليه وسلم قال : " العبادة في الهرْج كهجرة إليّ ) وهذا التعبير النبوي ( العبادة ) شمولي المدلول ، يدخل فيه العلم وبذله والعمل والدعوة والتواصي بالحق وغير ذلك من العبادة اللازمة والمتعدية . ومن هنا فإن هذا الحديث قاعدة في تدارك وعي الأمة أيام الهرج ( القتل , وقيل : الفتن العامة ) والأزمات ؛ لتحقيق عبودية الله ؛ فإن للعبادة اختصاصاًَ في هذه المواقع .
ومن فقه الإسلام: أن العبادة اسم جامع لكل ما يحبه الله ويرضاه من الأقوال , والأعمال الظاهرة , والباطنة ، اللازمة والمتعدية .
إن الأمة يوم تخرج من أحداث شمولية وهي تحمل مفاهيم في العلم ، و العمل ، والدعوة، والتصحيح مهتدية بهدي الشريعة ؛ فهي هنا تسير في مسار رسل الله عليهم الصلاة والسلام ، وفي صحيح مسلم من حديث عياض بن حمار المجاشعي في سياق طويل عن النبي صلى الله عليه وسلم قال : قال الله تعالى : (( ... وإنما بعثتُك لأبتليك وأبتلي بك )) .
إن حركة الصراع التي تتكون منها مادة حدث ما ، أو تقع مقارنة له ؛ يجب ألا تُنسي الأمة مفهوم رسالة الإسلام وشموليتها .
وهنا وإن كانت بعض صور التشريع معلقة بالسّعة ، واعتبار المصلحة المقدرة ؛ فثمت ثوابت من التشريع يجب المحافظة عليها , وألا تتحول شعيرة إلى إلغاء شعيرة , فهذا التزاحم بين الشرائع هو نقص في المفهوم والفقه الشرعي ؛ ولهذا لم يكن الجهاد و الصف موجباً لإسقاط الصلاة ؛ بل شُرعت صلاة الخوف ، وهكذا قواعد الشريعة ومقاصدها الثبوتية لا يمكن أن تتزاحم مع آحاد التشريع فيتجاوز ما هو من الثوابت لغرض خاص من الاجتهاد .
ويُقّدر في التعامل مع الأحداث الشمولية أن يكون أهل الإسلام متمتعين بمسؤولية ، وأن تكون هناك قدرة في قراءة الأمور بشرعية وعدل تحافظ على سياج الأمة وثوابتها . وحين تخرج الأمة من حدث ما , وقد تجاوزت أزمة فقدان الوعي , ومحدودية الفقه وانفصام عروة الولاء الإسلامي ، وتقنين الانشقاق والصراع بين الإسلاميين ، وأمثال ذلك من الأزمات التي يجب أن يقف رموز الأمة والقائمون على مسيرتها لمعالجتها وتحقيق هدي الله ورسوله في الأمة ؛ فهذه المصالح التي قد تكون مرحلة الحدث أكثر تأهيلاً لمعالجتها تُعدُّ انتصاراً يُفترض أن لا يسمح بتفويته .
إن الأمة قد تكون فيها أزمة ما ؛ لكنها في عقول كثيرين في دائرة الكمون أو اللاإدراك فحين يقع حدث ما تتحول لظاهرة مشاهدة ؛ فهنا يغلط الكثير ممن يظن أنها صناعة الحدث , ويغلط آخرون حينما يصنعون فكر اليأس في تجاوز هذه الأزمة أو تلك .
إن الأمة لا يمكن أن تقف أمام أزمة غير قابلة للتجاوز والمعالجة ، وهنا يجب أن ندرك ضرورة بناء الفأل بقدر معتدل يؤهل للعمل والمبادرة ؛ لكنه لا يعطي مثالية في تقدير الأشياء ؛ فإن الأمة حين تُحرَم الواقعية ؛ تقع في أزمات معقدة بالغة التأثير .
ومن الحكمة: أن نقدر في الأحداث الشمولية أنها ذات طبيعة مركبة متسلسلة , وهذا التصور يجعلنا أكثر فقهاً لمواقفنا وتأثرها بحركة التطور داخل الحدث ؛ فإن هذا من اعتبار قاعدة : ( تحصيل المصلحة ودرء المفسدة )كما أنه يعطي فقهاً لتنوع الموقف وربما اختلافه أحياناً .
والغالب في الأحداث الشمولية أنها: مركبة - من حيث الحكم- من أوجه محكمة لابد أن يتشكل فيها لأهل الإسلام موقف واحد , وألا يتنازعوا فيه ؛ فإن هذا ضرورة لتجاوز الحدث , والتعامل معه برسالة شمولية حضارية قادرة على استيعاب الأحداث والمحافظة على الثوابت ، وهذا الموقف بالغ الأهمية والعناية , ثم بعد ذلك يقع في الحدث - حسب اقتضاء الشريعة - أوجه تقبل التنوع والاختلاف في الموقف , وهذه مساحة واسعة .
ويُقدّر أن يكون أهل الإسلام يمتلكون وقتاً مناسباً في أثناء الحدث , ليتحدثوا معاً في موقفهم الخاص ، ويصحح بعضهم لبعض تحت مظلة الرحمة ، وحسن القصد ، والفقه ، وأن يكون هناك سَعة في قبول الاجتهاد الذي أذنت به الشريعة ، وألاّ تضيق النفـوس به ، وألاّ يتحول ما يقبل الخلاف في حكم الشريعة وقضائها إلى مفهوم للصراع والملاسنة , والانكفاء على الذات , والتصرف بفرضية مثالية لتجاوز الآخرين ممن لهم علم وصدق وديانة .
إن تراحم هذه الأمة أخص ما يكون قدره يوم تبتلي ببلاء عام , ويظهر تسلط أعدائها عليها ، وهذا التراحم يعطي مساحة لصدق الحديث والإنصاف ، ومراجعة التصورات ، ومنهج التعامل والعمل ، واستقراء شرعية المواقف ، وصوابية الرأي .
والمؤمن لا يفرك المؤمن وهذه من قواعد النبوة ، وهنا فإن تحقيق الأخوة بين أهل الإسلام - التي هي من أخص عصم الديانة - يكون ضرورة للتعامل مع الحدث بفقه واعتدال ؛ حتى لا تتكون المواقف لدى الإسلاميين تحت مظلة الصراع الداخـلي بينهم ، وفي ظروف نفسية غير هادئـة ؛ فإن فقدان التوازن في تأسيس الموقف قد يكون مسؤولاً عن تداعيات متسلسلة , ومن هنا يجب أن تقدر المواقف حسب اقتضاء الشريعة ومقاصدها , ويجب هنا تجاوز تمامية الرأي والاجتهاد ، فمن المشكل – كثيراً – أن يتحول الموقف الاجتهادي إلى موقف ثبوتي يكون التحول عنه تحولاً عن مبدأ وأصل .
إن أهمية موقف ما لا يمكن أن تمنحه حكماً ليس مقدراً في حكم الشريعة ، فإن الاجتهاد غالباً لا يكون مستوعباً لسائر المقاصد والمقتضيات ، وهنا يقع للبعض أحد تصورين :
1- تحول كل أوجه الحكم والتعامل إلى مواقف ثبوتية ؛ نتيجة ظهور وجه محكم ثبوتي بحق في تكوين الحدث والتعامل معه ، مع أن ثمت أوجهاً أخرى منفكة عنه ، ليس بالضرورة أنها تتمتع بنفس الدرجة من الحكم .
2- تحويل الموقف الشمولي إلى رؤية اجتهادية في سائر أوجهها , دون تحقيق الوجه المحكم الثبوتي .
إن الفاضل أن ندرك تعددية الأوجه في تكوين الحدث , وما قد يترتب على ذلك من تعددية النظر وأوجه الحكم ؛ فالرؤية الشمولية الشرعية يمكن بها تجاوز الحدث مع تحقيق مصالح أساسية في الاعتبار .
إن الغرب مع الحدث القائم اليوم يحاول ؛ بل واستطاع -إلى حد ما- توظيف دوائره وآلياته المتعددة ؛ لخدمة و ترسيم الرؤية الغربية في التعامل مع الحدث . ومن المعروف أن الغرب لا يتحرك الآن في البعد العسكري فقط ؛ بل يعمل في تشغيل كل الآليات المتاحة والممكنة له .
وهذه الشمولية الغربية في الآلية والتوظيف , وإن كان الغرب قد يحقق بها سبقاً ؛ إلا أننا ندرك أن الغرب وإن تمتع بشمولية في الآلية ؛ لكنه يتمتع برؤية أحادية ضيقة في مفهوم التعامل مع الحدث . فهذه الأحادية المتطرفة في الرؤية الغربية ؛ جعلت هذا الكم من آليات التوظيف لترسيم هذه الرؤية تبدو غير منسجمة وواقعية ؛ لكن مع هذا فهو يعمل على تجاوز هذه العقبة ؛ لكنا ندرك أنها عقبة غير عادية , ومن الصعب عليه تجاوزها إلا في حالة ركود المجتمع الإسلامي عن تبني الشمولية الشرعية في الرؤية وآلية العمل .
وهنا يُفترض أن نقدّر ضرورة بناء الشمولية الإسلامية في الرؤية ووسائل التطبيق , معتبرين هدي الله ورسوله . ولئن كان الغرب قد يحقق سبقاً من حيث توافر وسائل التطبيق والتعامل ، بحكم السبق المؤسسي الغربي ؛ فمع هذا يُقدَّر أن ندرك أننا نتملك مجموعة معقولة من الوسائل قابلة للتطوير ، بل نتمتع بوسائل لا يتمتع بها الغرب لأنها مكونة من العلاقة الإيمانية بين المسلمين ، وأن ندرك امتيازنا الأساس في هذا الموقف وهو: شمولية الرؤية ( التي هي حكم الشريعة) , وهذه لا يتمتع بها الغرب الذي يفتقد سماوية المنهج ، وحضارية التعامل ، بل يتحرك بمفاهيم مفرطة في الأنانية ، وعبودية الذات ، وفقدان التوازن والإنصاف ، وكأن هذا السطح المشاهد يصور الأفكار التي هي نتاج الأصوليةِ النصرانية واليهودية المتطرفة التي لا تزال تتحرك في دوائر غربية ، وفلسفاتِ ما بعد عصر الكنيسة ، والتي صورها الغرب كأنموذج حضاري في الاعتدال و الوعي و الإنسانية ، لكن الواقع يرسم صورة أخرى لهذه الفلسفات ، ويكشف الفشل الذريع في النظرية الغربية كرسالة حضارية غير قادرة على استيعاب الذات ، و هذا من أخص صور هزيمة الغرب ، الذي يحاول محاسبة الدول والمجتمعات الإسلامية عن أزماته الخاصة !!!
وهنا يُقدّر أننا لو أحسنّا التعامل مع هذه الرؤية الغربية الأحاديـة المتطرفة التي لا يعرفهـا الكثير منا إلا كمشكلـة تواجه المسلميـن , والحق أنها مشكلة تواجه الغرب نفسه بالدرجة الأولى , وإن كان بعض المسلمين قد يتأثر بها ؛ لكنها مؤهلة لأن تكون سبباً في انقلاب السحر على الساحر .
والله مولانا ولا مولى لهم والعاقبة لأهل الإسلام .
وصلى الله على خاتم الرسل .
كتبه / يوسف بن محمد الغفيص
موقع الإسلام اليوم :
http://www.islamtoday.net/articles/s...173&artid=2458______________________________ _______