المطلق والمقيد في الشريعة، مفهومهما، وحكمهما، والعلاقة بينهما
إبراهيم السلمي
الحمد لله وحدَه، والصلاة والسلام على من لا نبي بعده،
وبعدُ، فإنَّ أشرف العلوم علم الشريعة الإسلامية، ومن أهم فروع هذا العلم
علم أصول الفقه، الذي يُعرف به استنباط الأحكام، ويتوقَّف الاستنباط على
معرفة أشياء كثيرة من أهمها(المطلق والمقيد) ؛ فلا بُدَّ من بيان
مفهومهما، وحكمهما، وتوضيح العلاقة بينهما لا سيما إذا كان بين النصين
لقاء في الحكم، أو في سببه، أو في كليهما.
وإن الحاجة ماسَّة لمعرفة الحكم الشرعي من النصِّ؛ حيث إن الأحكام ورَد
منها المطلق والمقيَّد، فهل يُحمل المطلق على المقيد، ويخرج المكلف من
العُهدة، أو لا يُحمل؟
ولذلك جاءت هذه الإشارات المختصرة للمطلق والمقيد من خلال العناصر التالية:
- مفهوم المطلق والمقيد.
- حكم المطلق والمقيد.
- حمل المطلق على المقيد.
مفهوم المطلق والمقيد:
قبل الحديث عن مفهوم المطلق والمقيد ينبغي أن نعلم أن المطلق والمقيد من
الألفاظ الخاصة، التي لها دلالتها في استنباط الأحكام الشرعية من نصوص
القرآن والسنة؛ حيث إن الاستنباط هو أساس علم أصول الفقه، لكنه يتطلب فقه
النصِّ، وهو متوقف على معرفة اللغة العربية وطرق الدلالة فيها على المعنى.
والمطلق والمقيد من الألفاظ الخاصة التي وُضعت لمعنى واحد منفرد؛ حيث إن النصَّ الشرعي له دلالتان:
دلالة على المعنى، ودلالة على الحكم الشرعي.
والمطلق والمقيد من دلالة النصِّ على المعنى، فتتوقف فيه معرفة الحكم الشرعي على إفادة المعنى[1].
مفهوم المطلق:
المطلق في اللغة: من الإطلاق بمعنى الإرسال، فهو المرسل، أي: الخالي من
القيد، فالطالق من الإبل هي التي لا قيد عليها[2]، وجاء في المصباح
المنير:"مطلق اليدين إذا خلا من التحجيل"[3].
المطلق في الاصطلاح:
المقصود بالاصطلاح هنا اصطلاح الأصوليين؛ لأن هذا مما يبحثه الأصوليُّون، وهو من صميم علم أصول الفقه.
وحين ننظر في تعريفات الأصوليين للمطلق نجد لهم تعريفات متعددة، وتختلف باختلاف تصوُّرهم له.
فعرَّفه الرازي بأنه:"اللفظ الدالُّ على الحقيقة من حيث هي هي"[4]، وهو اختيار القرافي والبيضاوي[5].
وعرَّفه ابن قدامة بقوله:"المطلق المتناولُ لواحد لا بعينه باعتبار حقيقة شاملة لجنسه"[6]، وقد اختاره الطوفي وابن اللحام[7].
وذهب الآمدي وابن الحاجب إلى أن المطلق هو ما دلَّ على شائع في جنسه[8]،
وذكر الآمدي إلى أنَّ المطلق عبارة عن النكرة في سياق الإثبات[9]، وقال
ابن السبكي في تعريفه:"المطلق الدال على الماهية بلا قيد"[10]،
وبالتَّأمُّل في التعريفات السابقة نجد من الأصوليين مَنْ نظر إلى حقيقة
المطلق الذهنيَّة، ووجودها الذهني المجرد، وبعضهم نظر إلى حقيقة المطلق من
حيث وجودها الخارجي المتمثل في أفرادها[11].
وقد ذكر الطوفي أنَّ المعاني متقاربة يقول:"فالمعاني متقاربة ولا يكاد
يظهر بينها تفاوت؛ لأن قولنا: "رقبة" هو لفظ تناول واحدًا من جنسه غير
معين، وهو لفظ دلَّ على ماهية الرقبة من حيث هي هي، أي: مجردة عن العوارض،
وهو نكرة في سياق الإثبات"[12].
مفهوم المقيد:
المقيد في اللغة: مقابل المطلق، تقول العرب: قيدته وأقيده تقييدًا، فرس
مقيد، أي: ما كان في رجله قيد أو عقال مما يمنعه من التحرُّك الطبيعي[13].
المقيد في الاصطلاح:
يختلف الأصوليون في تعريفه بناء على اختلافهم في تعريف المطلق؛ لأن المقيد
عكس المطلق، وبناء على ذلك يُمكن اختصار تعريفه؛ فيكون المقيَّد في
الاصطلاح هو: وجود عارض يقلل من شيوع المطلق.
مثال شرعي للمطلق مع المقيد: قال الله - تعالى - في كفارة الظهار:
{وَالَّذِينَ يُظَاهِرُونَ مِنْ نِسَائِهِمْ ثُمَّ يَعُودُونَ لِمَا
قَالُوا فَتَحْرِيرُ رَقَبَةٍ مِنْ قَبْلِ أَنْ يَتَمَاسَّا} [المجادلة:
3]، فهنا ورَد في الكفارة تحرير، أيْ: رقبة، سواء كانت مؤمنة أم كافرة.
ويقول الله - تعالى - في كفَّارة القتل خطأ: {وَمَنْ قَتَلَ مُؤْمِنًا
خَطَأً فَتَحْرِيرُ رَقَبَةٍ مُؤْمِنَةٍ} [النساء: 92]، وهنا ورد في
الكفارة تقييد للرقبة، وهي أن تكون مؤمنة وليست أيَّ رقبة، فهل يُجرى
الحكم على إطلاقه في كفَّارة الظهار، أو يكون هناك تقييد لها كما ورد
تقييد للرقبة في كفارة القتل؟ فالحكم واحد وهو تحرير رقبة، وهناك تقييد
للرقبة بالإيمان في كفَّارة القتل، فهل يُحمل المطلق على المقيد؟ هذا ما
يخص المطلق مع المقيد، وأمَّا ما يخصُّ المطلق دون المقيد أو المقيد دون
المطلق فهو ما سيكون في الفقرة التالية:
حكم المطلق والمقيد:
أولاً: حكم المطلق:
إذا ورد النص مُطلقًا في موضع دون أن يُقيد، سواء في ذلك الموضع أم في
غيره؛ فإنه يُعمل به على الإطلاق، فيجب حمل المطلق على إطلاقه ما لم يدُل
دليل على تقييده، وهذا لا خلاف فيه بين العلماء[14].
فالمطلق حينما أطلقه الشرع فهو لوجوب العمل بإطلاقه، وليس لأجل تقييده في
مواطن أخرى، ويظهر ذلك جليًّا في قول الله - تعالى - في تحريم نكاح أم
الزوجة: {وَأُمَّهَاتُ نِسَائِكُمْ} [النساء: 93]، فأم الزوجة تَحْرُم على
زوج ابنتها بمجرد العقد على ابنتها؛ وذلك لأنَّ النصَّ ورد مطلقًا من غير
تقييد بالدخول أو عدمه، كتقييد تحريم الربيبة بالدخول على أمِّها في قول
الله - تعالى -: {وَرَبَائِبُكُمُ اللَّاتِي فِي حُجُورِكُمْ مِنْ
نِسَائِكُمُ اللَّاتِي دَخَلْتُمْ بِهِنَّ فَإِنْ لَمْ تَكُونُوا
دَخَلْتُمْ بِهِنَّ فَلَا جُنَاحَ عَلَيْكُم} [النساء: 93].
ثانيًا: حكم المقيد:
إذا ورد النص مقيدًا فإنَّه يجب العمل به مع قيده، ولا يجوز العدول عن ذلك إلاَّ إذا قام الدليل على عدم اعتبار القيد.
ومثال ذلك: تقييد الصيام بالتتابع في كفَّارة الظهار وكفارة القتل خطأً.
يقول الله - تعالى -: {فَصِيَامُ شَهْرَيْنِ مُتَتَابِعَيْنِ} [النساء:
92، المجادلة: 4]، وذلك في آيتين مستقلتين فيهما تقييد الصيام بالتتابع،
فهنا يَجب العمل بالقيد، فلا يجزئ إلاَّ صيام شهرين متتابعين، ولو
فرَّقهما لم يجز[15].
وأمَّا إذا ورد إطلاق في نص، وورد تقييد في نص آخر لمسألة أخرى، وكان
الحكم أو سببه واحدًا أو مختلفًا، فهل يُحمل المطلق على المقيَّد؟ هذا ما
سيكون في الفِقرة التالية.
حمل المطلق على المقيَّد:
قبل الحديث عن حمل المطلق على المقيد ينبغي التنبيه إلى أن العمل بالمطلق
لا يكون إلا بعد البحث عن المقيَّد على القول الصحيح، كالعام مع الخاص،
يقول الزركشي: "العمل بالمطلق قبل البحث عن المقيَّد ينبغي أن يكون على
الخلاف السَّابق في العموم"[16]، فالعمل بالعام لا يكون إلا بعد البحث عن
المخصَّص على الصحيح، وهذا في غير سامع اللفظ العام من النبي - صلى الله
عليه وسلم - فيجوز للسامع حينئذٍ التمسك بالعام قبل البحث عن المخصص، وأما
في غير السماع من النبي - صلى الله عليه وسلم - فالأمر بخلاف ذلك[17].
هذا، وإذا ورَدَ نص مطلق وآخر مقيد، فهل يُحمل المطلق على المقيد أو لا يُحمل، فيُعمل بالمطلق على إطلاقه، وبالمقيد بقيده؟
هذه المسألة فيها خلاف مشهور بين الجمهور من المالكية والشافعية والحنابلة
وبين الحنفية، فالحنفية لا يحملون المطلق على المقيَّد، بل يعملون
بالمطْلَق في موضعه، وبالمقيد في موضعه؛ ولكي تتضح المسألة لا بد من ذكر
حالات حمل المطلق على المقيد بالأمثلة والإشارة إلى الخلاف حولها، فحمل
المطلق على المقيد له خمس حالات، ومن أفضل مَن ذكرها الحافظ أبو زرعة في
الغيث الهامع[18]، وهي كما يلي:
الحالة الأولى: أن يتَّحد حكم المطلق والمقيد ويتحد
سببهما، ويكونا مُثبتين، مثل قول الله - تعالى - في آية: المحرمات:
{وَأُمَّهَاتُكُمُ اللَّاتِي أَرْضَعْنَكُمْ} [النساء: 23]، وقول النبي -
صلى الله عليه وسلم -: ((يحرم من الرضاع ما يَحرم من الولادة))[19]،
فالآية: والحديث فيهما إطلاق لتحريم الرضاع بأي عدد، لكن روي عن عائشة -
رضي الله عنها - أنها قالت: "كان فيما نزل من القرآن عشر رضعات معلومات
يُحرمْن، ثم نُسخْنَ بخمس معلومات، فتوفي رسول الله وهنَّ فيما يُقرأ من
القرآن"[20].
ففي هذا المثال يُحمل المطلق على المقيد عند الجمهور، وفي غير هذا المثال
فيما إذا كان المطلق والمقيد متواترًا، فإنَّه محلُّ اتفاق بين الجمهور
والحنفية، فليس بينهم اختلاف في أصل الحالة الأولى، وإنَّما الخلاف في كون
المطلق والمقيد مُتحدين في التواتر، أيْ لو كان المقيد آحادًا فيختلف
الحنفية مع الجمهور.
الحالة الثانية: كالتي قبلها في اتحاد الحكم والسبب، لكنهما منفيَّان نحو: "لا تعتق مكاتبًا"، و"لا تعتق مكاتبًا كافرًا".
فالقائل: إنَّ المفهوم حجة - وهم جمهور المالكية والشافعية والحنابلة[21]
- يقيَّد قول "لا تعتق مكاتبًا" بمفهوم قول "لا تعتق مكاتبًا كافرًا"؛
فيجوز إعتاق المكاتب المسلم.
ومَن لا يقول بالمفهوم - وهم الحنفية -[22] فإنه يعمل بالإطلاق، ويمنع
إعتاق المكاتب مطلقًا، وهذا من باب الخاص والعام؛ لكونه نكرة في سياق
النهي، فإن الأفعال في معنى النكرات، وليس من باب المطلق والمقيد.
وقال ابن دقيق العيد في قول النبي - صلى الله عليه وسلم -: ((لا يمسكن
أحدكم ذكره بيمينه وهو يبول))[23]: "هذا يقتضي تقييد النهي بحالة البول"،
وفي رواية أخرى: النهي عن مسِّه باليمين من غير تقييد، فمن الناس مَن أخذ
بهذا المطلق، وقد يسبق إلى الفهم أن العام محمولٌ على الخاص، فيخص النهي
بهذه الحالة وفيه بحث؛ لأنَّ هذا يتَّجه في باب الأمر والإثبات، فإنه لو
جعلنا الحكم للمطلق والعام في صورة الإطلاق أو العموم كان فيه إخلال
باللفظ الدالِّ على كل قيد، وقد تناوله الأمر وذلك غير جائز، وأمَّا في
باب النهي، فإنَّا إذا جعلنا الحكم للمقيد، أخللنا بمقتضى اللفظ المطلق مع
تناول النهي له، وذلك غير سائغ، وهذا كله بعد النظر في تقديم المفهوم على
ظاهر العموم[24].
قال أبو زرعة: "قد يقال في هذا الحديث: إنَّه من مفهوم الموافقة؛ لأنه إذا
نهى عن إمساكه حالة البول مع الاحتياج لذلك، ففي غير هذه الحالة مع عدم
الاحتياج لإمساكه أوْلَى بالنهي، وقد يقال لا مفهوم له أصلاً؛ لأنَّه خرج
مخرج الغالب[25].
الحالة الثالثة: كالتي قبلها أيضًا في اتحاد الحكم والسبب، لكن أحدهما
أمرٌ والآخر نهي، كأن يقول: "أعتق رقبة"، ويقول: "لا تملك رقبة كافرة"،
فلا يعتِق كافرة ؛ لاستحالة ذلك لعدم تملكها، وتقييد المطلق بضِدِّ الصفة
التي هي الكفر وهو الإيمان، وليس من حمل المطلق على المقيد[26].
الحالة الرابعة: أنْ يختلف السبب ويتَّحد الحكم، كإطلاق الرقبة في كفارة
الظهار، وتقييد الرقبة بالإيمان في كفَّارة القتل، ففيه مذاهب:
أحدها: أنَّه لا يُحمل عليه أصلاً، وقال به أبو حنيفة[27]، والثاني: أنه
يُحمل من جهة اللفظ، والثالث: أنه يُحمل عليه من جهة القياس إن اقتضى ذلك
بأن يشتركا في المعنى[28].
الحالة الخامسة: أنْ يختلف الحكم ويتحد السبب، وذلك مثل آية الوضوء؛ قال
الله - تعالى -: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آَمَنُوا إِذَا قُمْتُمْ إِلَى
الصَّلَاةِ فَاغْسِلُوا وُجُوهَكُمْ وَأَيْدِيَكُمْ إِلَى
الْمَرَافِقِ...} [المائدة: 6]، وقال تعالى: {فَتَيَمَّمُوا صَعِيدًا
طَيِّبًا فَامْسَحُوا بِوُجُوهِكُمْ وَأَيْدِيكُمْ مِنْهُ...} [المائدة:
6]؛ ففي الآية: تقييد غسل اليدين إلى المرفقين، وفي التيمم إطلاق الأيدي،
وسببهما واحد وهو الحدث، وقد ذكر أبو الوليد الباجي أن فيهما الخلاف،
وكذلك حكى القرافي خلافًا في ذلك[29]، بينما ذكر ابن الحاجب عدم حمل
المطلق على المقيد إنِ اختلف حكمهما، سواء اتَّحد السبب مثل مسألتنا أم
اختلف، وذكر الاتفاق على ذلك[30]، وقد نقل الشوكاني الإجماع على عدم حمل
المطلق على المقيد في مثل هذه الحالة[31].
هذا، وإن قول الجمهور بحمل المطلق على المقيد ليس على إطلاقه، وإنما
بشروط[32]، بينما الحنفية خرجوا على أصلهم، ووافقوا الجمهور في بعض
المسائل[33]، وإن قالوا بعدم حمل المطلق على المقيد، ثُم إنَّ القول بحمل
المطلق على المقيد أحوطُ، فكيف يُهمَل المقيد وهو منطوق به ومفسِّر،
والقرآن الكريم كالكلمة الواحدة في بناء بعضه على بعض.
وأختم بقول الإمام الشافعي - رحمه الله -: "إذا وجبت كفَّارة الظهار على
الرجل، وهو واجد لرقبة أو ثمنها، لم يُجْزِه فيها إلا تحرير رقبة مؤمنة،
ولا تجزئه رقبة على غير دين الاسلام؛ لأن الله - تعالى - يقول في
القتل:{فَتَحْرِيرُ رَقَبَةٍ مُؤْمِنَةٍ} [النساء: 92]، وكان شرط الله -
تعالى - في رقبة القتل إذا كانت كفَّارة، كالدليل - والله تعالى أعلم -
على أنْ لا يجزئ رقبة في الكفارة إلا مؤمنة، كما شرط الله - عزَّ وجل -
العدل في الشهادة في موضعين، وأطلق الشهود في ثلاثة مواضع، فلمَّا كانت
شهادة كلها اكتفينا بشرط الله - عزَّ وجل - فيما شرط فيه، واستَدْلَلْنا
على أن ما أطلق من الشهادات - إن شاء الله تعالى - على مثل معنى ما شرط،
وإنما رد الله - عز ذكره - أموال المسلمين على المسلمين لا على المشركين،
فمن أعتق في ظهار غير مؤمنة فلا يجزئه، وعليه أن يعودَ فيعتق مؤمنة"[34]
[35].
هذه إشارات مُختصرة أسأل الله - تعالى - أن ينفع بها، وصلى الله على محمد وعلى آله وسلم.
يتبع